فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

{أفأمنوا مكر الله} يعني استدراجه إياهم بما أنعم عليهم من الدنيا وقيل: المراد به أن يأتيهم عذابه من حيث لا يشعرون، وعلى هذا الوجه فيكون بمعنى التحذير وسمي هذا العذاب مكرًا لنزوله وهم في غفلة عنه لا يشعرون به {فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} يعني أنه لا يأمن أن يكون ما أعطاهم من النعمة مع كفرهم استدراجًا إلا من خسر في أخراه وهلك مع الهالكين. اهـ.

.قال أبو حيان:

{أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون}.
جاء العطف بالفاء وإسناد الفعل إلى الضمير لأن الجملة المعطوفة تكرير لقوله: {أفأمن أهل القرى} {أو أمن} وتأكيد لمضمون ذلك فناسب إعادة الجملة مصحوبة بالفاء ومكر مصدر أضيف إلى الفاعل وهو استعارة لأخذه العبد من حيث لا يشعر، قال ابن عطية: {ومكر الله} هي إضافة مخلوق إلى الخالق كما تقول ناقة الله وبيت الله والمراد فعل معاقب به مكر الكفرة وأضيف إلى الله لما كان عقوبة الذنب فإن العرب تسمى العقوبة على أي جهة كانت باسم الذنب الذي وقعت عليه العقوبة وهذا نص في قوله: {ومكروا ومكر الله} انتهى، وقال عطية العوفي: {مكر الله} عذابه وجزاؤه على مكرهم، وقيل مكره استدراجه بالنعمة والصحة وأخذه على غرّة وكرّر المكر مضافًا إلى الله تحقيقًا لوقوع جزاء المكر بهم. اهـ.

.قال أبو السعود:

{أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله}.
تكريرٌ للنكير لزيادة التقريرِ، ومكرُ الله تعالى استعارةٌ لاستدراجه العبدَ وأخذِه من حيث لا يحتسب، والمرادُ به إتيانُ بأسِه تعالى في الوقتين المذكورين ولذلك عُطف الأولُ والثالثُ بالفاء فالإنكارُ فيهما متوجهٌ إلى ترتب الأمنِ على الأخذ المذكور، وأما الثاني فمن تتمة الأولِ {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون} أي الذين خسِروا أنفسَهم وأضاعوا فطرةَ الله التي فطرَ الناسَ عليها والاستعدادَ القريبَ المستفادَ من النظر في الآيات. اهـ.

.قال الألوسي:

{أفَأمنُوا مَكْرَ الله}.
تكرير لمجموع الانكارين السابقين جمعًا بين التفريق قصدًا إلى زيادة التحذير والإنذار، وذكر جمع من جلة المحققين أنه لو جعل تكريرًا له ولما سلف من غرة أهل القرى السابقة أيضًا على معنى أن الكل نتيجة الأمن من مكر الله تعالى لجاز إلا أنه لما جعل تهديدًا للموجودين كان الأنسب التخصيص، وفيه تأمل.
والمكر في الأصل الخذاع ويطلق على الستر يقال: مكر الليل أي ستر بظلمته ما هو فيه، وإذا نسب إليه سبحانه فالمراد به استدراجه العبد العاصي حتى يهلكه في غفلته تشبيهًا لذلك بالخداع، وتجوز هذه النسبة إليه سبحانه من غير مشاكلة خلافًا لبعضهم، وهو هنا إتيان البأس في الوقتين والحالين المذكورين، وهل كان تبديل مكان السيئة الحسنة المذكور قبل مكرًا واستدراجًا أو ملاطفة ومراوحة؟ فيه خلاف والكل محتمل {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون} أي الذين خسروا أنفسهم فاضاعوا فطرة الله التي فطر الناس عليها والاستعداد القريب المستفاد من النظر في الآيات والفاء هنا متعلق كما قال القطب الرازي وغيره بمقدر كأنه قبل فلما آمنوا خسروا فلا يأمن الخ.
وقال أبو البقاء إنها للتنبيه على تعقيب العذاب أمن مكر الله تعالى، وقد يقال: إنها لتعليل ما يفهمه الكلام من ذم الأمن واستقباحه أو يقال إنها فصيحة، ويقدر ما يستفاد من الكلام شرطًا أي إذا كان الأمن في غاية القبح فلا يرتكبه إلا من خسر نفسه، واستدلت الحنفية بالآية على أن الأمن من مكر الله تعالى وهو كما في جميع الجوامع الاسترسال في المعاصي إتكالًا على عفو الله تعالى كفر، ومثله اليأس من رحمة الله تعالى لقوله تعالى: {إنَّهُ لاَ يَيْأس مِنْ رُوحِ اللهِ إلاَّ القَوْم الكَافِرُون} [يوسف: 87] وذهبت الشافعية إلى أنهما من الكبائر لتصريح ابن مسعود رضي الله تعالى عنه بذلك وروى ابن أبي حاتم.
والبزار عن ابن عباس أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سئل ما الكبائر؟ فقال: الشرك بالله تعالى واليأس من روح الله والامن من مكر الله وهذا أكبر الكبائر قالوا: وما ورد من أن ذلك كفر محمول على التغليظ وآية لا ييأس إلخ كقوله تعالى: {الزانية لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ} [النور: 3] و{لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله} [المجادلة: 22] في قول.
وقال بعض المحققين: إن كان في الأمن اعتقاد أن الله تعالى لا يقدر على الانتقام منه وكذا إذا كان في اليأس اعتقاد عدم القدرة على الرحمة والاحسان أو نحو ذلك فذلك مما لا ريب في أنه كفر وإن خلا عن نحو هذا الاعتقاد ولم يكن فيه تهاون وعدم مبالاة بالله تعالى فذلك كبيرة وهو كالمحاكمة بين القولين. اهـ.

.قال ابن عاشور:

قوله: {أفأمنوا مكر الله}.
تكرير لقوله: {أفأمنَ أهل القرى} قصد منه تقرير التعجيب من غفلتهم، وتقرير معنى التعريض بالسامعين من المشركين، مع زيادة التذكير بأن ما حل بأولئك من عذاب الله يماثل هيئة مكر الماكر بالممكور فلا يحسبوا الإمهال إعراضًا عنهم، وليحذروا أن يكون ذلك كفعل الماكر بعدوّه.
والمكر حقيقته: فعل يقصد به ضر أحد في هيئة تخفَى أو هيئة يحسبها منفعة.
وهو هنا استعارة للإمهال والإنعام في حال الإمهال، فهي تمثيلية، شبه حال الإنعام مع الإمهال وتعقيبه بالانتقام بحال المكر، وتقدم في سورة آل عمران (54) عند قوله: {ومكَروا ومكر الله والله خير الماكرين} وقوله: {فلا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون} مُترتب ومتفرع عن التعجيب في قوله: {أفأمنوا مكر الله} لأن المقصود منه تفريع أن أهل القرى المذكورين خاسرون لثبوت أنهم أمنوا مكر الله، والتقدير: أفأمنوا مكر الله فهم قوم خاسرون.
وإنما صيغ هذا التفريع بصيغة تعُم المخبَر عنهم وغيرهم ليجري مجرى المثل ويصير تذييلًا للكلام، ويدخل فيه المعرّض بهم في هذه الموعظة وهم المشركون الحاضرون، والتقدير: فهم قوم خاسرون، إذ لا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون.
والخسران هنا هو إضاعة ما فيه نفعهم بسوء اعتقادهم، شُبه ذلك بالخسران وهو إضاعة التاجر رأس ماله بسوء تصرفه، لأنهم باطمئنانهم إلى السلامة الحاضرة، وإعراضهم عن التفكر فيما يعقبها من الأخذ الشبيه بفعل الماكر قد خسروا الانتفاع بعقولهم وخسروا أنفسهم.
وتقدم قوله تعالى: {الذين خسروا أنفسهم} في سورة الأنعام (12)، وقوله: {فأولئك الذين خسروا أنفسهم} في أول السورة (9).
وتقدم أن إطلاق المَكْر على أخذ الله مستحقي العقاب بعد إمهالهم: أن ذلك تمثيل عند قوله تعالى: {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين} في سورة آل عمران (54).
واعلم أن المراد بأمن مكر الله في هذه الآية هو الأمن الذي من نوع أمن أهل القرى المكذبين، الذي ابتُدىء الحديث عنه من قوله: {وما أرسلنا في قرية من بنيء إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضّراء لعلهم يضرّعون} [الأعراف: 94] ثم قوله: {أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتًا} الآياتتِ، وهو الأمن الناشيء عن تكذيب خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن الغرور بأن دين الشرك هو الحق فهو أمن ناشيء عن كفر، والمأمون منه هو وعيد الرسل إياهم وما أطلق عليه أنه مكر الله.
ومن الأمن من عذاب الله أصنْاف أخرى تُغاير هذا الأمن، وتتقارب منه، وتتباعد، بحسب اختلاف ضمائر الناس ومبالغ نياتهم، فأما ما كان منها مستندًا لدليل شرعي فلا تَبعةَ على صاحبه، وذلك مثل أمن المسلمين من أمثال عذاب الأمم الماضية المستند إلى قوله تعالى: {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} [الأنفال: 33]، وإلى قول النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم} فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أعوذ بسبحات وجهك الكريم {أَوْ مِن تحت أرجلكم} فقال: «أعوذ بسبحات وجهك الكريم {أو يلبسكم شيعا} [الأنعام: 65] الآية فقال: هذه أهون» كما تقدم في تفسيرها في سورة الأنعام ومثل، أمن أهل بدر من عذاب الآخرة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يدريك لعل الله اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» في قصة حاطب بن أبي بلتعة.
ومثل إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عبدَ الله بن سلام أنه لا يزال آخذًا بالعروة الوثقى، ومثل الأنبياء فإنهم آمنون من مكر الله بإخبار الله إياهم بذلك، وأولياءُ الله كذلك، قال تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون} [يونس: 62، 63] فمن العجيب ما ذكره الخفاجي أن الحنفية قالوا: الأمنُ من مكر الله كفر لقوله تعالى: {فلا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون}.
والأمنُ مجمل ومكر الله تمثيل والخسران مشكك الحقيقة.
وقال الخفاجي: الأمنُ من مكر الله كبيرة عند الشافعية، وهو الاسترسال على المعاصي اتكالًا على عفو الله وذلك مما نسبه الزركشي في شرح جمع الجوامع إلى ولي الدين، وروى البزار وابن أبي حاتم عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: ما الكبائر فقال: الشرك بالله واليأس من روح الله والأمنُ من مكر الله» ولم أقف على مبلغ هذا الحديث من الصحة، وقد ذكرنا غير مرة أن ما يأتي في القرآن من الوعيد لأهل الكفر على أعمال لهم مرادٌ منه أيضًا تحذير المسلمين مما يشبه تلك الأعمال بقدر اقتراب شبهه. اهـ.

.قال الشعراوي:

{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)}.
والأمن هو الاطمئنان إلى قضية لا تثير مخاوف ولا متاعب، ويقال: فلان آمن؛ أي لا يوجد ما يكدر حياته. والحق يقول: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله} ونحن نسمع بعض الكلمات حين ينسبها الله لنفسه نستعظمها، ونقول: وهل يمكر ربنا؟ لأننا ننظر إلى المكر كعملية لا تليق.. وهنا نقول: انتبه إلى أن القرآن قد قال: {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ...} [فاطر: 43].
إذن ففيه مكر خير، ولذلك قال الحق: {... والله خَيْرُ الماكرين} [آل عمران: 54].
والمكر أصله الالتفاف. وحين نذهب إلى حديقة أو غابة نجد الشجر ملتف الأغصان وكأنه مجدول بحيث لا تستطيع أن تنسب ورقة في أعلى إلى غصن معين؛ لأن الأغصان ملفوفة بعضها على بعض، وكذلك نرى هذا الالتفاف في النباتات المتسلقة ونجد أغصانها مجدولة كالحبل.
إذن فالمكر مؤداه أن تلف المسائل، فلا تجعلها واضحة. ولكي تتمكن من خصمك فأنت تبيت له أمرًا لا يفطن إليه، وإذا كان الإِنسان من البشر حين يبيت لأخيه شرًّا، ويفتنه فتنًا يُعمي عليه وجه الحق وليس عند الإِنسان العلم الواسع القوي الذي يمكر به على كل من أمامه من خصوم لأنهم سيمكرون له أيضًا.
وإذا كان هناك مكر وتبييت لا يكتشفه أحد فهو مكر وتبييت الله لأهل الشر، وهذا هو مكر الخير؛ لأن الله يحمي الوجود من الشر وأهله بإهلاكهم. {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون} [الأعراف: 99].
وهناك من يسأل: هل أمن الأنبياء مكر الله؟ نقول نعم. لقد آمنوا مكر الله باصطفائهم للرسالة، وهناك من يسأل: كيف إذن لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون؟!
نقول: لقد جاء في منهج الرسل جميعًا أن الذي يأمن مكر الله هو الخاسر؛ لأن الله هو القادر، وهو الذي أنزل المنهج ليختار الإِنسان به كسب الدنيا والآخرة إن عمل به، وإن لم يعمل به يخسر طمأنينة الإِيمان في الدنيا وإن كسب فيها مالا أو جاها أو علمًا، ويخسر الآخرة أيضًا. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذَنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}.